كتب / وليد كريم الناصري
وَجَاءَتْ سَيَّارَة،ٌ فَأَرْسَلُت ولدها فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ، قَالَ يَا بُشْرَىٰ! هَٰذَا زائرٌ كريم.
فأَسَرُّه بِضَاعَةً وَالله فيما قلبه عليم.
لا تأخذ بيدي ولحيتي، إن التعب أرهقني، وزهد بي الليل، وأخاف أن أشقى على نفسي، وأني معك لمن الذاهبين.
وجاء الدار البسيط عشاءاً يضحكون.
البشارة البشارة يا أماه، سنبيت الليلة جائعين! لقد جلبت إليك من يآكل طعامنا، فنكونن من الخادمين.
يا بشرى قالت أمه... وبكت... هذا زائراً قاصداً يوم الأربعين؟!
نعم لقد إشتريته بثمن مسيره، وتعبه، وجهده، والليل الذي سيأويه عندنا الليلة، فهو اليوم أسير التعب والإرهاق، وغداً سيصبح حرأ، يعانق السماء فخراً، بأنه قاصداً للحسين.
خذه وإكرم مثواه يا ولدي "إبراهيم"، فأنه والله لمن المكرمين، وعسى أن يتخذ الله بيننا وبينه مودة، وقدم صدق عند الحسين.
من مدلولات المنفعة والمصلحة، بأنها أخذ وعطاء، وعلى أساسها تبنى مقادير الكميات المتساوية بالأثمان، ولكن عندما تأخذ تلك الموازين تتلاشى، لفرض عدم التوافق والتطابق بين العطاءين، فأنها تنتج الأيثار بالكثير مقابل القليل، والأشد من ذلك كله أن لا يكون بينهما توافق بالمطلق! بأن يأخذ الشيء ولا يعطى شيء بصدده، وهذا أقصى غاية الجود والسخاء.
لحاتم الطائي والكرم حكاية، فعلها لكي لا يعاب عليه أخلاقه كعربي، وزهد بما عنده، حتى يقال بأنه "كريم العرب”، إذن حصلت المنفعة، ولكون فعله من مدلولات الإسلام، أكرمه الله لفعله، فجعل منه ذرية هي أقرب لله منها للخلائق، كعدي ولده، وولد عدي(طرفة وطارف وطريف وحجر والطرماح) الذين نالوا منزلة الشهادة والرفعة في ركاب "علي إبن أبي طالب" إلا "الطرماح" فقد نالها مع الحسين في كربلاء.
ماذا يحسن إبراهيم، ذو التسعة أعوام من هذه المنفعة والسخاء، هو صبي من أطراف مدينة سوق الشيوخ، وهو يعي أن إكرام زائر الحسين، لا يدر عليه بالمنفعة من حيث العقاب والثواب في وقتها، لأنه لم يدرك سن التكليف بعد، ولا يخضع لمبدأ المسائلة عن الوجوب والمستحب، وليس هو ممن سيأخذ دور حاتم الطائي؟
أقرب ما يفسر تلك الأفعال، ينحصر بين أمرين لا ثالث لهما، أولهما عملا وفعلاً يراه عند عامة الناس، أو أمراُ توارثه عن أبيه، وعلى كِلا الفرضين، الطفل بعمره لا يفرق بمقتنياته وحصالة نقوده إلا لما ينفعه، فلماذا فرط إبراهيم بكل ما يملك؟ وثانيهما والأقرب للواقع "واعية الحسين" التي الى اليوم صدى صوتها يتكسر بين كهوف مسامع الإنسانية! ولا يجد الكبير والصغير تلبية لتلك الواعية،إلا أن ينصر الحسين بكل ما يمت له بصله، فوجد الزائر أبهى صورة، يستجيب بها لداعي الحق في كربلاء.
الحسين في واقعة الطف، جسد الإنسانية بجميع فصائلها، ومستويات المجتمعات على إختلاف طبقتها، الطفولة والشباب والكهول والشيبة، والأهم من ذلك إن واعية الحسين، لم تقتصر على جيل أو مجتمع أو زمان ومكان، هي رسالة صوتية تبث على طول الأزمنة، بعد أكثر من (1377)عام مضت على قتل الحسين، ولا زالت تحرك ضمير الطفل إبراهيم، وملايين الناس على مختلف طبقاتهم، وكم نتمنى أن تؤثر بالطبقة السياسية الحاكمة بالعراق، ليعيدوا حساباتهم بالشعب المسكين وينصفوه، إكراما للعراق وحباً بالحسين شهيد الإنسانية.