يتابع أسعد العيداني في هذه الحلقة الخامسة من سلسلة المذكرات التي يرويها وكيف عاش حلاوتها ومرارتها، حيث يروي لنا قصة الرعب التي كان يعيشها المواطن العراقي في ظل النظام البعثي البوليسي البائد الذي نشر الرعب والموت والخوف والدمار في البلد ، فيقول العيداني:"أول من أخبرني باستشهاد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) هو ، محمد إبراهيم، كان أحد زملائي في المدرسة. جاءني بحذر شديد وقال لي: سمعنا اليوم خبر إعدام السيد الشهيد الصدر الأول، وأخته العلوية بنت الهدى (رضوان الله تعالى عليهما)، ، لكن لا تتكلم عن الأمر، فنحن ما زلنا في المدرسة، والحديث عن مثل هذه الأمور قد يعرّضنا للخطر. كان الخوف مسيطرًا علينا، والرعب جزءًا من حياتنا اليومية. رغم ذلك، كان هناك في داخلي شيء من التمرد، لكنه لم يكن ليغيّر شيئًا من الواقع المرير."
ثم يتحدث العيداني عن كيفية تأثير الحرب العراقية – الإيرانية على قضاء شط العرب قائلاً:" لقد كانت الحرب مؤثرة للغاية، خاصة في بداياتها. فقد هجرت العديد من العائلات من قراها ومناطقها، وأصبحت بعض المناطق شبه مهجورة. ومن بين هذه القرى والمناطق في ناحية عتبة هي في نهر جاسم ، وقرية "الدعيجي "الواقعة قرب منطقة السليمانية، والتي كانت جزءًا من مناطق قضاء شط العرب. كانت المنطقة تضم خليطًا من العشائر وعلى قرابة اربع عشائر، وهم العيدان ، وتميم، وهم بيت كنعان، والعطب، والقطارنة، وكانت تسكنها بيوت متفرقة من عشائر أخرى ، ولكن العوائل مترابطة فيما بينها. كان هناك تداخل اجتماعي قوي بين السكان، فالعم والخال والجيران كانوا بمثابة عائلة وبيئة واحدة، وكانوا يتقاسمون الأرض والعمل والمصير ذاته. حتى أن التداخل يمتد إلى العشائر العربية داخل إيران، وصولًا إلى مناطق مثل المحمرة وعبادان والأحواز، حيث كانت البيئة متشابهة ولكن الحدود هي التي فصلتها."
ويستمر العيداني في الحديث عن أثر الحرب العراقية – الإيرانية على قضاء شط العرب ، قائلاً: ان منطقة العجيراوية تاثرت بعد ان هجر سكانها "حين وقعت معركة نهر جاسم، كانت واحدة من أكثر المعارك دموية شرق البصرة. لا يزال هذا الاسم محفورًا في ذاكرة العراقيين، فقد استخرجنا لاحقًا رفات جنود عراقيين وإيرانيين من هناك، رحمهم الله جميعًا. كانت حربًا طاحنة أثرت بشكل كارثي على العراق، وأعادت البلاد سنوات طويلة إلى الوراء اقتصاديًا. أذكر جيدًا كيف كان الدينار العراقي في عام 1979 يعادل دينارًا ومئة وخمسين فلسًا كويتيًا، أي ما يعادل ثلاثة دولارات أمريكية. قبل الحرب، كان العراق يمتلك اقتصادًا قويًا، وكان الدينار العراقي واحدًا من أقوى العملات في المنطقة. البصرة، على وجه الخصوص، كانت تعتمد بشكل كبير على تجارة التمور، التي كانت مصدر دخل رئيسي، بالإضافة إلى الصيد والزراعة، حيث كان العديد من السكان يعملون في هذين المجالين، بينما كان التوظيف في قطاع النفط ودوائر الدولة محدودًا."
ثم ينتقل العيداني إلى الحديث عن معاناة عائلته قائلاً:"كبرت في بيئة كان أهلي فيها معارضين لنظام صدام، رغم أنني كنت صغيرًا ولا أفهم السبب في البداية، لكنني كنت أدرك أن هناك شيئًا خاطئًا. حين اشتد القتال في معركة نهر جاسم، اضطر الجيش العراقي إلى إخلاء قريتنا ( العجيراوية) ، بسبب القصف المدفعي ، وأصبحت ساحة حرب ، ولم يبقَ فيها سوى ثلاثة أشخاص: الشيخ عبد الغفار، وأخوه حجي عبد السلام، وجدتي. لم يكن يُسمح لأحد بالبقاء، وحينها أتذكر اننا انتقلنا بواسطة مركبة عسكرية الى البصرة.
ويستطرد حديثه بالقول:"لقد كانت تلك الفترة صعبة جدًا، لكنها شكلت جزءًا من تجربتي التي جعلتني أؤمن بأن الظلم لا يدوم، وبأن الإرادة القوية يمكن أن تغيّر المصير."