كاظم فنجان الحمامي:
لا مكان للخبرة والكفاءة والمهارة في العراق الجديد، فالمؤهلات التخصصية غير مطلوبة في معظم المجالات الحيوية في هذا البلد العجيب، وهكذا كان لزاماً عليَّ أن أمضي آخر أيامي الوظيفية في البحر، فقد انطلقت بالسفينة الأجنبية (MAG SUCCESS) في الصباح الباكر من آخر أيام عام 2014، من موانئ شط العرب إلى البحر، وعدت مساء اليوم نفسه بسفينة بنمية (MEERA) من البحر إلى البصرة.
واصلت المسير ليلا بوجهي المبلل بالتعاسة حتى وصلت (الواصلية)، فألقيت المرساة هناك قبيل منتصف ليلة رأس السنة الجديدة (2015). كنت مثقلا بالهموم والآلام، متوجعا من وخزات (عرق النسا). رميت جسدي المنهك فوق سرير الكابينة المخصصة لي، فسمعت أفراد الطاقم، وكانوا معظمهم من الهنود، يتبادلون التهاني بالعام الجديد. ثم جاءوا إلى كابنتي مهنئين بصوت واحد (هبي نيو يير)، وتركوني لآلامي وهمومي وانصرفوا.
رفعت المرساة في الساعات الأولى من اليوم الأول من العام الجديد، وواصلت المسير نحو موانئ البصرة. كان اسم هذا المجرى الملاحي والنهر الحيوي (شط العرب) منذ قرون وقرون وحتى الليلة الأخيرة من عام 2014، لكنني فوجئت أن اسمه تغير فجأة إلى (أرفند رود)، وهو الاسم الذي اختارته إيران بعد عام 1980، لكنه أصبح الآن شبه رسمي، وربما سيصبح اسماً رسمياً في الأيام القادمة. لا أدري فكل الأشياء المزعجة باتت محتملة الوقوع.
نهر عراقي الهوية عربي الأصل، من أبويين عربيين هما دجلة والفرات. ولد منذ قرون في (القرنة) تحت ظلال شجرة سيدنا آدم، فاقترن اسمه في فردوس الأهوار بجذور هذه الأرض المقدسة، واحتضن أقدم موانئ الكون منذ اليوم الذي امتطى فيه السومريون سفن البردي، ومنذ اليوم الذي بُنيت فيه أكبر وأقدم وأجمل سفن الأنبياء والرسل في الأحواض الرافدينية الواسعة، لكنه فقد اسمه العربي، وهويته العراقية، وسيفقد مستقبله كله في خضم هذا الإهمال المُركَب، الذي اشتركت فيه مؤسساتنا المهنية والإدارية والتشريعية والسياسية والسيادية، فتغير اسمه من شط العرب إلى (أرفند رود) في الخرائط العالمية، من دون أن ينتفض أحد، على الرغم من صيحاتنا المدوية، وكتاباتنا الجريئة، ونداءاتنا المتواصلة.
تغير مجراه بمعاول التعرية. تعثرت مساراته بعوامل الترسيب. أصيبت شرايينه كولسترول الأطيان. أصبح من أكبر مستودعات النفايات والملوثات. انخفض منسوبه المائي. ارتفعت ملوحيته. تراكمت في أعماقه السفن والزوارق الغارقة. ماتت نخيله كلها من المنبع إلى المصب.
من فيكم يصدق أن شط العرب فقد اسمه في خرائط منظومات البحث في الأقمار الصناعية، وفي برامج (الجوجل أيرث)، وفي منظومات التعريف الآلي للسفن التجارية المبحرة في حوض الخليج العربي ؟.
هذا نهر النيل، أطول وأغزر أنهار كوكب الأرض، يمر بنحو (11) دولة أفريقية، هي الكونغو الديمقراطية، وكينيا، وبوروندي، وأوغندا، وتنزانيا، ورواندا، وإثيوبيا، وجنوب السودان، والسودان، ومصر، ولم يتغير اسمه على الرغم من طوله، الذي بلغ (6650) كم.
وهذا نهر الأمازون ثاني أكبر أنهار العالم، من حيث الطول والعمق والغزارة، ومن حيث معدلات التدفق، يمر بست دول أمريكية. هي: بيرو، وكولومبيا، وبوليفيا، وفنزويلا، والإكوادور، والبرازيل، ولم يتغير أسمه.
وهذا نهر الدانوب، أطول أنهار الاتحاد الأوربي، وثاني أطول نهر في القارة العجوز بعد (الفولجا)، يجري في ألمانيا، والنمسا، وسلوفاكيا، والمجر، وكرواتيا، وصربيا، وبلغاريا، ومولدوفا، وأوكرانيا، ورومانيا، وتطل عليه أربع عواصم. هي: فينا وبودابست وبلغراد وبراتيسلافا، لكن أسمه لم يتغير على الرغم من تغير اللغات والهويات والتوجهات.
وهذا نهر الراين الذي أحتل مكانة كبيرة في التاريخ الأوربي بوجه عام، والألماني بوجه خاص، لأنه النهر الذي كان يرسم الحدود الفاصلة بين الإمبراطورية الرومانية وقبائل الجرمان، ويمر الآن بسويسرا وألمانيا وفرنسا وهولندا، لكنه لم يغير أسمه، ولم يفقد ملامحه، باستثناء شط العرب الذي تغير اسمه في المقطع المحصور بين رأس البيشة وأم الرصاص، وصار في ليلة وضحاها (أرفند رود) في الخرائط الملاحية والجغرافية وعلى شبكات البحث في الانترنت، من دون أن يعترض أحد، ومن دون أن يحتج أحد، ومن دون أن يمتعض أحد. ربنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين.