كتب/ عباس الكتبي:
الدعامة الثالثة، للسياسة المالية التي انتهجها الإمام علي عليه السلام، هي: عدم الاستئثار بأي شيء من أموال الدولة.
كثير جداً من الملوك والرؤساء، يعتبرون وصولهم الى الحكم مكسباً فيتخذون مال الدولة مغنماً لهم ولذريتهم، وأقربائهم، وعشيرتهم، لذا تجد بعض من الاحاديث النبوية، وأحاديث أهل البيت" صلوات الله عليهم أجمعين"، تخبر عن هذه الحقيقة المؤلمة.
أثبتت كثير من كتب التاريخ، ان أمير المؤمنين عليه السلام، كان متحرجاً أشد التحرج بأموال المسلمين خلال فترة حكمه، ليس على نفسه فقط، بل حتى مع أهله وذويه وأصحابه.
يذكر لنا ابن ابي الحديد المعتزلي في شرحه على نهج البلاغة، هذه الحادثة:
(( يقول خالد بن معمر الأوسي لعلباء بن الهيثم- وكان من أصحاب علي عليه السلام- : اتقِ الله يا علباء في عشيرتك، وانظر لنفسك ولرحمك ماذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة، ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما فأبى وغضب، فلم يفعل)).
يقول عليه السلام في نهج البلاغة:
((و الله لقد رأيت عقيلا و قد أملق حتى استماحني من بركم صاعا،و رأيت صبيانه شعث الشعور،غبر الألوان من فقرهم،كأنما سودت وجوههم بالعظلم ،و عاودني موكدا،و كرر علي القول مرددا،فأصغيت إليه سمعي،فظن أني أبيعه ديني،و أتبع قياده مفارقا طريقتي،فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها،فضج ضجيج ذي دنف من ألمها،و كاد أن يحترق من ميسمها.
فقلت له:
ثكلتك الثواكل يا عقيل،أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه،و تجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه؟أتئن من الأذى و لا أئن من لظى)).
إلى أن قال:
((و الله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل و قبح الزلل و به نستعين)).
قال عليه السلام أيضاً:
((و إنّما هي نفسي أروضها بالتّقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، و تثبت على جوانب المزلق، و لو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل و لباب هذا القمح، و نسائج هذا القزّ،، و لكن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، و لا عهد له بالشّبع أو أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى.
أو أكون كما قال القائل : و حسبك داء أن تبيت ببطنة و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ، أ أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدّهر ؟ أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها تكترش من أعلافها)).
في حادثة تبين عدالة الإمام عليه السلام الى أبعد مدى، يقول صالح الكشفي الحنفي:(( كان أمير المؤمنين علي (عليه السلام) دخل ليلة في بيت المال يكتب قسمة الأموال، فورد عليه طلحة والزبير، فأطفأ (عليه السلام) السراج الذي بين يديه، وأمر بإحضار سراج آخر من بيته، فسألاه عن ذلك فقال (عليه السلام): كان زيته من بيت المال لا ينبغي أن نصاحبكم في ضوئه)).
الرؤوس الكبيرة من رجالات قريش، التي غدقت عليهم حكومة عثمان بالأموال الطائلة، وأستئثروا بها دون بقية المسلمين، لما رأوا حدة العدالة عند علي بن ابي طالب عليه السلام، ولم تكن لهم أي فرصة معه، لنهب وسلب ثروات البلاد، وقوت الشعب، فروا منه والتحقوا بمعسكر الشام مع معاوية ابن ابي سفيان، حيث يجدون مرادهم عنده!!!
السياسة المالية التي سار عليها أمير المؤمنين، من المساواة بين المسلمين ، والعدالة في توزيع الأموال، وعدم الإستئثار بأموال الدولة، هي من جرّت عليه الحروب وإشعال الفتن، من اصحاب المطامع والمنافع.
لذلك ترى ان الذين اندفعوا الى قتال ريحانة النبي، الإمام الحسين" صلوات الله عليهما"، كعمرو بن حريث، وشبث بن ربعي، وحجار بن أبحر، وغيرهم، كانوا من اصحاب الثراء، التي منحتهم اياه الحكومة الأموية، وخوفا على أموالهم ومصالح، ومكانتهم، هبّوا الى حرب ابن رسول الله"صلى الله عليه وآله"، لأنهم علموا ان الحسين على نهج أبيه ان استتب له الأمر، وقد أعلن عليه السلام، في مسيره الى كربلاء، الهدف من خروجه، حيث قال:
(( أيُّها الناسُ، إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم قال: مَنْ رَأى سُلْطاناً جائِراً مُسْتَحِلاًّ لِحُرَمِ اللهِ، ناكِثاً لِعَهْدِ اللهِ، مُخالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، يَعْمَلُ فِي عِبادِ اللهِ بالإثْمِ والعُدوان، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفعْلٍ ولا قَوْلٍ، كان حَقّاً على الله أنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ.
ألاَ وَإنَّ هؤلاءِ قَدْ لزِمُوا طاعَةَ الشَّيطانِ، وَتَرَكُوا طاعَةَ الرَّحْمنِ، وَأظْهَرُوا الفَسادَ، وَعَطَّلُوا الحُدُودَ، واسْتَأثَرُوا بِالْفَيْءِ، وَأحَلُّوا حَرامَ اللهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأنا أحقُّ مَنْ غيري لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...)).
كم نحن بحاجة اليوم الى حكام ومسؤولين، يقتدون بسيرة الإمام علي عليه السلام، لا يستئثروا بخزينة الدولة، وثروات الشعوب لأنفسهم، وللأبناء، والاصهار، والأحزاب، ولكن ما أكثر الفُسّاد في حكومات العراق والعرب!!
حديثنا مستمر..