يعرج العيداني في هذه الحلقة ليسرد لنا تاريخ مدينة البصرة القديم واللحظات التي عاشها في بداية فترة طفولته وشبابه قائلا: رغم الحياة الصاخبة للمدينة، هناك لحظات تفرض عليك التأمل في مسيرتك. وُلِدتُ في بيئة بسيطة، حيث كانت المنازل في منطقة الجمهورية لا تتجاوز مساحتها المائة متر، لكنها كانت عامرة بالدفء والتآلف الاجتماعي الذي لا يزال يؤثر في حياتي حتى الآن. لا زلت أزور هذه المنطقة بين فترة وأخرى، فهي تمثل جزءًا لا يتجزأ من هويتي.
نشأت في الجمهورية، وهي منطقة شعبية قديمة تُشبه في طابعها مدينة الصدر أو حي الحسين أو الحيانية ، وكانت الجمهورية، التي تُعرف أحيانًا بالفيصلية، قائمة حتى قبل تأسيس مدينة الصدر في عهد عبد الكريم قاسم. الحياة هناك كانت مختلفة؛ البيوت متقاربة، والشارع كان أشبه بأسرة واحدة، حيث يقطن كل منزل عائلة أو عائلتان في مساحة ضيقة، لكن ذلك لم يكن عائقًا أمام تلاحم السكان.
أصولي تعود إلى شط العرب، حيث عاش جدي في إحدى مقاطعات النخيل. رغم ذلك، عندما انتقلتُ للعيش في الجمهورية، لم أشعر بفرق كبير، فقد كانت روح الجماعة تسود كلا البيئتين. كانت الحياة هناك تحكمها القيم الاجتماعية الصارمة، فلم يكن مقبولًا أن ينظر أحد إلى ابنة جيرانه بنظرة غير لائقة، وإن حدث ذلك، كان الجيران هم أول من يُحاسبه، لا بدافع القسوة، بل لأن الجميع كان يعتبر الآخر جزءًا من أسرته.
أكملتُ دراستي الابتدائية والإعدادية في الجمهورية، حيث تخرجتُ من إعدادية الجمهورية. والدي كان مدرسًا للرياضيات، بدأ التدريس في الإعدادية المركزية، ثم انتقل إلى مدارس أخرى مثل تلك الواقعة في منطقة الحيانية. أما والدتي، فكانت بسيطة التعليم، لكنها زرعت فينا القيم التي ساعدتنا في بناء شخصياتنا.
كثيرون لا يتخيلون أنني نشأت في بيئة شعبية عندما يرونني اليوم في منصب المحافظ، لكنني لم أنسَ يومًا جذوري. أحيانًا أضحك عندما يُفاجأ البعض بمعرفتي الدقيقة بتفاصيل المجتمع الشعبي، فأنا ابن هذا المجتمع، تربيتُ بين أناس بسطاء، حيث كان اللعب في الفرق الشعبية لكرة القدم جزءًا من طفولتنا، وحيث خرج الكثير من أبناء منطقتي ليصبحوا أطباء، مهندسين، وضباطًا يخدمون بلدهم.
قبل اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، كانت منطقة شط العرب تعج ببساتين النخيل، وكانت التمور العراقية تُصدر إلى العالم، حتى جاءت الحرب وغيّرت كل شيء. مقاطعات النخيل التي كانت نابضة بالحياة دُمرت بالكامل بسبب المعارك.
تأثرتُ في طفولتي أيضًا بعمي، الحاج عبدالسلام، الذي لم يُرزق بأطفال، فكان بمثابة الأب الثاني لي. كان رجلًا متعلمًا، عمل في إحدى الدوائر الحكومية، وتأثر كثيرًا بالثورة الإسلامية في إيران، شأنه شأن الشيخ عبدالغفار، الذي كان مناصرًا للخميني منذ الأيام الأولى لثورته. رغم أنني كنت صغيرًا، إلا أنني لا أنسى كيف كان الحديث عن السيد محمد باقر الصدر يُعد جريمة آنذاك، يكفي أن تُذكر صورته لتجد نفسك في مواجهة الإعدام.
هذه الذكريات وغيرها بقيت محفورة في ذهني، تذكّرني دائمًا بالماضي الذي شكلني، وبالطريق الطويل الذي سلكته، من شوارع الجمهورية الشعبية إلى مقعد المحافظ في البصرة.