يقول محافظ البصرة المهندس ، اسعد العيداني، في هذه الحلقة الثانية من مسيرة حياته الجهادية والنضالية والسياسية ، كيف اكتنفته ونضجته وصقلته كشخصية تنهل من جده الشيخ والحاج عبد الغفار الذي كان له تأثير كبير على حياته بالقول " انه ربما أكثر شخصية مما يمكنه وصفه. حيث نشأت وترعرعت في كنفه، وكان لوجوده في حياتي أثر عميق. أنا الابن الأكبر لوالدي، وعشت مزيجًا فريدًا بين بيئة شط العرب الريفية والمنطقة الشعبية في الجمهورية. هذا الخليط أثر في طفولتي وصقل تجربتي الحياتية.
ويضيف : منطقتنا في الجمهورية كان يطلق عليها قديمًا "الفيصلية"، نسبة إلى الملك فيصل، حيث بُنيت المساكن ووزعت على الموظفين. وكانت بيوتنا صغيرة لا تتجاوز 100 متر مربع، رغم أن عائلتي تمتلك أراضي في شط العرب، إلا أننا اضطررنا للعيش في المدينة نظرًا لطبيعة عمل والدي.
وكان الدي، خريج كلية التجارة في البصرة ، في زمن كانت فيه المدينة مركزًا للمدنية والتجارة، تضاهي بغداد والموصل في أهميتها آنذاك، رغم ذلك، كان للعشائر روابطها القوية، إلا أن المدنية في البصرة انعكست على بيوتاتها، بفضل وجود ميناء المعقل، الذي كان قلب المدينة النابض، قبل إنشاء موانئ أم قصر وأبو فلوس. البريطانيون أسسوا الميناء عند دخولهم العراق، ولكن حتى قبلهم، كان للفرنسيين والعثمانيين وجود فيها. هذه الخلفية التاريخية جعلت البصرة مدينة مفتوحة ومؤثرة، حتى على سكان المناطق الشعبية.
في البصرة، لم تكن هناك فجوة واضحة بين الريف والمدينة، بعكس محافظات أخرى، حيث كان أبناء القرى على تماس مباشر مع الحياة الحضرية. كان النهر وحده هو الفاصل بين مركز المدينة وقضاء شط العرب. حتى جامعة البصرة كانت تقع هناك، مما زاد من تداخل الأقضية مع المدينة، وأثر في النسيج الاجتماعي.
ويضيف المحافظ قائلا: ان الشيخ عبد الغفار، رحمه الله، رغم كبر سنه، لم يكن شيخ العشيرة الرسمي، بل كان ابن عمه الأصغر، لكنه ظل شخصية مؤثرة بفضل تجارته الكبيرة في التمور، والتي جعلته من أبرز تجار المنطقة. كما انه لم يكن مجرد شيخ عشيرة فقط، بل كان رمزًا للأخلاق والتدين الحقيقي، كما كان شائعًا في ذلك الوقت. ويستطرد :عندما أتحدث عن التدين، لا أقصد التدين السطحي، بل التدين القائم على القيم والمبادئ. والدليل على ذلك أنه بنى حسينية في شط العرب قرابة عام 1954 ، والتي تم تجديدها لاحقًا بناءً على وصيته. هذه الحسينية كانت الوحيدة في القرية، حيث لم يكن هناك أي مسجد، وكانت تضم مضائف تقليدية مصنوعة من القصب، ومجالس عزاء تقام في المناسبات الدينية.
ويسلط العيداني على ملف طفولته بالقول : طفولتي كانت مليئة بالتجارب البسيطة والممتعة؛ الصيد في شط العرب، العمل في الزراعة، والعيش في بيئة تكثر فيها بساتين النخيل. قريتنا كانت من أهم المناطق المنتجة لأجود أنواع التمور، حيث كانت تُصدر منتجاتها إلى الأسواق المحلية والعالمية.
ويتابع العيداني متحدثا عن بيئة الاجتماعية بالقول: في ذلك الوقت كانت البيئة مستقرة، ولم تكن هناك مشاكل عشائرية بالمفهوم الذي نراه اليوم من نزاعات عنيفة، وإن حدثت مشاجرات، فسرعان ما يتم حلها بتدخل شيخ العشيرة.
وهذه الذكريات شكلت جزءًا كبيرًا من حياتي، وجعلتني أفهم كيف يمكن للبيئة، سواء كانت ريفية أو حضرية، أن تصقل شخصية الإنسان وتؤثر في مساره.
كان جدي، رغم أنه لا يقرأ ولا يكتب، يتمتع بقدرة مذهلة على الحسابات، وكأنه يمتلك حسًّا فطريًا دقيقًا في إدارة تجارته، خاصة في تجارة التمور وإدارة "الجرداق" وزراعة النخيل. لم يكن بحاجة إلى فلاحين من خارج القرية، فجميع العاملين كانوا من أهلها، حيث كانت الأرض جزءًا من هويتهم وحياتهم اليومية.
في ذلك الزمن، كانت المياه العذبة وفيرة، وكان نهر الكارون يمدنا بحوالي 300 متر مكعب في الثانية، مما جعل القرية أشبه بواحة من بساتين النخيل الممتدة على ضفتي شط العرب. قبل الحرب العراقية-الإيرانية، كانت الحياة أكثر ازدهارًا واستقرارًا، ولم يكن لجدي أن يتقلد مشيخة العشيرة، إذ أن هذه المكانة كانت متوارثة لدى أبناء عمومته، لكنه ظلّ شخصية مرموقة بفضل تدينه وعلاقاته الوطيدة مع رجال الدين.
والحسينية الوحيدة في القرية كانت مركزًا دينيًا واجتماعيًا هامًا، حيث لم تكن هناك مساجد أخرى، وكانت المساكن مبنية من القصب والطين بأنواعه المختلفة. أتذكر أنواعًا من الطين كان يستخدم في البناء، مثل "الزداد"، الذي كان يُشكل بيوتًا طينية متماسكة، و"الطاش"، حيث كانت جدرانه مصنوعة من القصب المغلف بالطين، في مشهد تراثي يعكس بساطة الحياة آنذاك.
كانت أبواب البيوت تُصنع من خشب بسيط أو من القصب المشدود، وكانت الحياة تعتمد على الوسائل المتاحة، لكنها كانت مستقرة ومليئة بروح التعاون بين أبناء القرية. هذه البيئة، بكل تفاصيلها، تركت أثرًا عميقًا في حياتي، وجعلتني أدرك الفارق بين حياة القرية وحياة المدينة، وكيف أن لكل منهما خصوصيته التي تصنع شخصياتنا وتحدد مساراتنا.